فصل: ومن باب اختيار الفطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب من أكل وشرب ناسيا:

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب وحبيب وهشام عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله أكلت وشربت ناسيًا وأنا صائم قال الله أطعمك وسقاك».
قوله: «الله أطعمك وسقاك» فيه دليل على أن لا قضاء على المفطر ناسيًا وذلك أن النسيان من باب الضرورة والضرورات من فعل الله سبحانه ليست من فعل العباد ولذلك أضاف الفعل إلى الله سبحانه وتعالى.
وإلى إسقاط القضاء والكفارة عن الناس ذهب عامة أهل العلم غير مالك بن أنس وربيعة بن أبي عبد الرحمن. فأما إذا وطئ زوجته ناسيا في نهار الصوم فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسيًا، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد عليه القضاء، وقال أحمد عليه القضاء والكفارة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم عمدت.
قلت: معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل. والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معًا فبطل أن يكون له عموم. ومن مذهب أبي عبد الله أنه إذا أكل ناسيا لم يفسد صومه لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية فكذلك إذا جامع ناسيا. فأما المتعمد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة.

.ومن باب تأخير قضاء رمضان:

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة تقول: «إن كان ليكون عليّ تعني الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان».
قولها: «فما أستطيع أن أقضيه» إنما هو لاشتغالها بقضاء حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفير الحظ في عشرته.
وفيه دلالة على أن من أخر القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل وهو مستطيع له غير عاجز عنه فإن عليه الكفارة ولولا ذلك لم يكن في ذكرها شعبان وحصرها موضع القضاء فيه فائدة من بين سائر الشهور.
وممن ذهب إلى إيجاب الكفارة على من أخر القضاء إلى أن يدركه شهر رمضان من قابل أبو هريرة وابن عباس وهو قول عطاء والقاسم بن محمد والزهري.
وإليه ذهب مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الحسن والنخعي يقضي وليس عليه فدية، وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقال سعيد بن جبير وقتادة يطعم ولا يقضي.

.ومن باب من مات وعليه صيام:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه».
قلت: هذا فيمن لزمه فرض الصوم إما نذرًا وإما قضاء عن رمضان فائت مثل أن يكون مسافرًا فيقدم وأمكنه القضاء ففرط فيه حتى مات أو يكون مريضًا فيبرأ ولا يقضي.
وإلى ظاهر هذا الحديث ذهب أحمد وإسحاق وقالا يصوم عنه وليه، وهو قول أهل الظاهر. وتأوله بعض أهل العلم فقال معناه أن يطعم عنه وليه فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه وسمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه: {أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95] فدل على أنهما يتناوبان.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يجوز صيام أحد عن أحد وهو قول أصحاب الرأي وقاسوه على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها واتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء حتى مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه. غير قتادة فإنه قال يطعم عنه وقد حكي ذلك أيضًا عن طاوس.

.ومن باب الصوم في السفر:

قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حَدَّثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن حمزة الأسلمي قال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر قال صم إن شئت وافطر إن شئت».
قلت: هذا نص في إثبات الخيار في السفر بين الصوم والإفطار. وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلاّ ما روي عن ابن عمر أنه قال: إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يجزئه، وذهب إلى هذا من المتأخرين داود بن علي، ثم اختلف أهل العلم بعد هذا في فضل الأمرين منهما.
فقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر، وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص أفضل الأمرين الصوم في السفر وبه قال النخعي وسعيد بن جبير وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وقالت فرقة ثالثة أفضل الأمرين أيسرهما على المرء لقوله عز وجل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] فإن كان الصوم عليه أيسر صامه وإن كان الفطر أيسر فليفطر وإليه ذهب مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان المعنى قالا: حَدَّثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال: «أتيت أبا سعيد الخدري وهو مكثور عليه فانتظرت خلوته فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر فقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان عام الفتح فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ونصوم حتى بلغ منزلًا من المنازل فقال إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال ثم سرنا فنزلنا منزلًا فقال إنكم تُصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سعيد: لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك».
قلت: وزعم بعض أهل العلم أنه إذا أنشأ السفر في رمضان لم يجز له أن يفطر واحتج بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وفي هذا الحديث دلالة على غلط هذا القائل، ومعنى الآية شهود الشهر كله. وهم شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر.

.ومن باب اختيار الفطر:

قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن، يَعني ابن سعد بن زرارة عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يُظَلل عليه والزحام عليه قال ليس البر الصيام في السفر».
قلت: هذا كلام خرج على سبب فهو مقصور على من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار ولو لم يكن الصوم برًا لم يخيره فيه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا أبو هلال الراسبي حدثنا ابن سوادة القشيري عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير قال: «أغارت علي خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فانتهيت أو قال فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال اجلس فأصب من طعامنا هذا، قلت إني صائم فقال اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام إن الله وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما فلهف نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قلت: قد يجسع نظم الكلام أشياء ذات عدد منسوقة في الذكر مفترقة في الحكم وذلك أن الشطر الموضوع من الصلاة يسقط لا إلى قضاء والصوم يسقط في السفر ترخيصا للمسافر ثم يلزمه القضاء إذا أقام. والحامل والمرضع تفطران إبقاء على الولد ثم تقضيان وتطعمان من أجل أن إفطارهما كان من أجل غير أنفسهما.
وممن أوجب على الحامل والمرضع مع القضاء الإطعام مجاهد والشافعي وأحمد وقال مالك الحبلى تقضي ولا تكفر لأنها بمنزلة المريض والمرضع تقضي وتكفر وقال الحسن وعطاء تقضيان ولا تطعمان كالمريض وهو قول الأوزاعي والثوري وإليه ذهب أصحاب الرأي.

.ومن باب متى يفطر الصائم إذا خرج:

قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عبد الله بن يحيى حدثني سعيد بن أبي أيوب والليث بن سعد حدثني يزيد بن أبي حبيب أن كليب بن ذُهل الحضرمي أخبره عن عبيد بن جبر قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال اقترب قلت ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل.
قلت: فيه حجة لمن رأى للمقيم الصائم إذا سافر من يومه أن يفطر وهو قول الشعبي وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وعن الحسن أنه قال يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج.
وقال إسحاق بن راهويه إذا وضع رجله في الرحل فله أن يفطر، وحكاه عن أنس بن مالك وشبهوه بمن أصبح صائما ثم مرض في يومه فإن له أن يفطر من أجل المرض قالوا وكذلك من أصبح صائما ثم سافر لأن كل واحد من الأمرين سبب للرخصة حدث بعد مضي شيء من النهار.
قلت: السفر لا يشبه المرض لأن السفر من فعله وهو الذي ينشئه باختياره والمرض شيء يحدث عليه لا باختياره فهو يعذر فيه ولا يعذر في السفر الذي هو فعل نفسه ولو كان في الصلاة فمرض كان له أن يصلي قاعدًا ولو سافر وهو مصل لم يكن له أن يقصر.
وقال أصحاب الرأي لا يفطر إذا سافر يومه ذلك وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وروي ذلك عن النخعي ومكحول والزهري. قلت وهذا أحوط الأمرين والإقامة إذا اختلط حكمها بحكم السفر غلب حكم المقام.

.ومن باب مسيرة ما يفطر فيه:

قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث، يَعني ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن منصور الكلبي أن دحية بن خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط وذلك ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أني أراه إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا ثم قال عند ذلك اللهم اقبضني إليك.
قلت: في هذا حجة لمن لم يحد السفر الذي يترخص فيه الإفطار بحد معلوم ولكن يراعي الاسم ويعتمد الظاهر واحسبه قول داود وأهل الظاهر. فأما الفقهاء فإنهم لا يرون الإفطار إلاّ في السفر الذي يجوز فيه القصر وهو عند أهل العراق ثلاثة أيام وعند أهل الحجاز ليلتان أو نحوهما وليس الحديث بالقوي وفي إسناده رجل ليس بالمشهور، ثم أن دحية لم يذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر في قصير السفر إنما قال إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلهم إنما رغبوا عن قبول الرخصة في الإفطار أصلا. وقد يحتمل أن يكون دحية إنما صار في ذلك إلى ظاهر اسم السفر، وقد خالفه غير واحد من الصحابة فكان ابن عمر وابن عباس لا يريان القصر والإفطار في أقل من أربعةُ برد وهما أفقه من دحية وأعلم بالسنة.

.ومن باب صوم يوم الفطر والنحر:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب وهذا حديثه قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي عبيدة قال شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم».
قوله: «أما يوم الفطر ففطركم من صيامكم» يدل على أنه من نذر صوم ذلك اليوم لم يلزمه صيامه ولا قضاؤه لأن هذا كالتعليل لوجوب الإفطار فيه، وقد وسم هذا اليوم بيوم الفطر والفطر مضاد للصوم ففي إجازة صومه إبطال لمعنى اسمه.
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الصيام لا يجوز في هذين اليومين غير أن أهل العراق ذهبوا إلى أنه لو نذر صومهما لزمه قضاؤه والنذر إنما يلزم في الطاعة دون المعصية وصيام هذين اليومين معصية لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه فالنذر لا ينعقد فيه ولا يصح كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها.